أهم المدارس اللسانية العربية
إن
علماء العرب، مثل الجاحظ والجرجاني والسكاكي وابن خلدون هم الذين أسّسوا المدارس
اللسانية العربية، ويمكن أن نتحدث عنهم في هذاة المقالة بداية من المدرسة
البيانية مع الجاحظ ثم مدرسة النظم مع الجرجاني ثم المدرسة الشمولية مع السكاكي
لنصل إلى المدرسة الارتقائية مع ابن خلدون.
المدرسة البيانية مع الجاحظ
كان
من الأصح أن نقول المدرسة البيانية -التبيينية- حتى نلتزم بعبارة الجاحظ وبفكره
كما كانا في عنوان كتابه المشهور «البيان والتبيين»، لأن إتباع التبيين للبيان
الذي كان بالإمكان الاستغناء عنه في العنوان طلبا للاختصار دفع بالجاحظ إلى تجشم
المسالك الوعرة لاستيعاب مدارك الكلام في جميع مضانها، لأن البيان إن كان يعبر
بالخصوص عن هذه الظاهرة اللسانية الإنسانية التي تمثل الأمانة التي عرضها الله على
السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لأنه كان ظلوما
جهولا، وهي بالتالي ظاهرة غيبية بالدرجة الأولى، فإن التبيين موضوع من الجاحظ لوصف
العلاقات اللسانية التي تجري في عالم الشهادة وتجمع بين المتكلم والمخاطب وتنقل
البيان إلى بلاغة، والكلام إلى رسالة مع ما تتضمنه الرسالة من إلقاء وتلقي ورموز
ومعاقد وحال ومقال ومقام كما تشرحه اليوم اللسانيات الحديثة.
والتأمل
في حقيقة الكلام وفي كيفية إنشائه وتطويره وعلاقته بالإنسان منذ بدء الخليقة إلى
أن صار بلاغة في سياسة الكون والكلام. كل هذا ضمنها في كتابيه «البيان والتبيين»
و«الحيوان»، وقد اعتمد في ذلك على ما جاء في القرآن خاصة مما جعله أول ممثل
للمدارس الكلامية المستمدة من القرآن الكريم.
بدأ
الجاحظ بتلخيص أنواع الدلالات في خمسة لا تزيد ولا تنقص، هي: اللفظ ثم الإشارة ثم
العقد ثم الخط ثم النصبة. وسر هذا التصنيف لا يزال لغزا، لكن يبدو أنه قائم على
النظرة الارتقائية التي تتلخص في عبارة «العالم الصغير سليل العالم الكبير»
الشهيرة عنده حيث ينحدر اللفظ من الإشارة، والإشارة من العقد، والعقد من الخط،
والخط من النصبة.
مدرسة النظم مع الجرجاني
النظم
كما تصوره الجرجاني يعني كيفية تركيب الكلام انطلاقا من الجملة البسيطة ليصل إلى
نظم القرآن في تراكيبه الصوتية والدلالية والنحوية والبلاغية والأسلوبية والغيبية
الإعجازية. والنظم باختصار يعني تأليف الحروف والكلمات والجمل تأليفا خاصا يسمح
للمتكلم والسامع أن يرتقيا بفضل بديع التركيب إلى مدارك الإعجاز في المعاني علما
بأن المعاني تملأ الكون وتعمر الفضاء واختيار تركيب من التراكيب في النص كاختيار
مسلك من المسالك في البر والبحر قد يؤدي بالسالك يعني المتكلم إما إلى الوصول إلى
الغاية التي يقصدها في بر النجاة أو إلى الضلال والهلاك، والنظم كالبناء والنسج
يتم في معاقد النسب والشبكة، فمعاقد النسب تبرم الخيوط التي تذهب طولا، ومعاقد
الشبكة تبرم الخيوط التي تذهب عرضا، فإذا نسجت خيوط الطول في خيوط العرض حصل
النظم
المدرسة الشمولية مع السكاكي
كتاب
السكاكي «مفتاح العلوم في البلاغة»، كان له تأثير كبير على الأجيال التالية، فصارت
آراؤه مرجعا للدارسين جعلته أكبر مدرسة لسانية في العربية، ولا يعرف الدارسون
مدرسة مماثلة لها من حيث الاتساع والشمول في الثقافات الأخرى.
وقد
صنف السكاكي العلوم اللسانية في شكل شجرة أصلها ثابت في قواعد اللغة وفروعها في
السماء تشمل جميع أنواع الكلام.
والتطور
يشمل أولا فرعين: النحو والصرف، ثم يرتقي النحو والصرف إلى درجة البلاغة، فيخلف
علم المعاني «النحو» وعلم البيان «الصرف»، ويخلف مقتضى الحال في البلاغة مقتضى
الوضع في النحو بإدراج المنطق والاستدلال في العملية عملية التحويل كما يدرج مع
مقتضى الحال مقتضى المقام ومقتضى المقال، ويرتقي من البلاغة إلى علوم الأسلوب في
مستوى علم البديع، فيخلف البيان المحسنات اللفظية والمعاني المحسنات المعنوية، ولا
يعرف العلماء عندنا حتى الآن أن انتقال السكاكي من البيان إلى المعانـي ليس شيئا
آخر سوى انتقال من علم البلاغة إلى علم الأسلوب الذي أصبح علما قائما بذاته اليوم،
وجعل الكثير من الأدباء واللسانيين لا يميزون بين الطائف الدقيقة في البلاغة
والأسلوب، وجعلهم يعدون الوجوه البديعية زبدا رابيا يذهب جفاء ولا ينفع الناس. وقد
ساهم بعض أصحاب البديع بتصنعهم وتكلفهم في تأكيد هذا الانطباع، وبعد البديع يرتقي
الكلام إلى مرتبة الشعر مع العروض والقافية. فالعروض يخلف التراكيب النحوية
والمعنوية، والقافية تخلف البيان، وعند اكتمال هذه الطبقات كلها ينتقل إلى الأدبية. ومفهوم الأدب
يجمع بين القول والعمل يعني بين التربية [التأديب] والقول الحسن، وليس فوق الأدب
إلاّ الإعجاز القرآنـي الذي ينقل القول
والفعل الحسن إلى مدارك الغيب حيث
يلتقي صواب القول بصواب العمل.
وهكذا
يطمح السكاكي في مفتاحه إلى النفاذ إلى جميع العلوم اللسانية والغيبية.
المدرسة الارتقائية مع ابن خلدون
إن
النظرية الارتقائية مبنية على طبقات خمس متراصفة يعبر عنها ابن خلدون بالأطوار،
ويقصد بالطور الفترة الزمنية التي ينتقل فيها الكائن لسانيا كان أو إنسانيا أو
حيوانيا من صورته الأولى إلى صورة أخرى كما أن لو كان حقيقة أخرى وليست تطورا
داخليا لحقيقة واحدة تنتقل من طور إلى طور حتى تنتهي إلى غايتها.
والطور
عند ابن خلدون هو الحال عند البلاغيين، وقد أخذوه عن المتصوفة ووظفها ابن خلدون
لبناء نظرية التحصيل وهي تنص على أن المعنى ينشأ أول ما ينشأ عن الفعل، فإذا تكرر
الفعل صار صفة، وإذا تكررت الصفة صارت حالا (أعني صفة غير ثابتة)، وإذا تكررت
الحال صارت ملكة (أي مقاما كما يقول المتصوفة)
والنظام
الخماسي هذا يجري في تسلسل مطرد من أسفل إلى أعلى صعودا، ومن أعلى إلى أسفل نزولا
في صورة هرمية أو في شكل شجرة أصلها ضيق وهو واسع، وفرعها واسع وهو ضيق دقيق، هذه
الشجرة هي المنوال الذي رصت فيه جميع المعاني التي تعمر الكون كلمات كانت أم
أشخاصا وأشياء.
وهي
أعيان متفرقة، إذا جمعت ونظمت شكلت أكوانا متراصفة في منوال عمراني واحد، إذا ركبت
في الأفعال كانت عمرانا فعليا، وإذا ركبت في أفكار وألفاظ لسانية كانت عمرانا
فكريا وكلاميا. والذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى
الذوات التي تجاورها من الأسفل والأعلى استعدادا طبيعيا كما في العناصر الجسمانية
البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق
الحيوان، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر
والروية. وهذا لا يعني أكثر مما يعنيه مبدأ «العالم الصغير سليل العالم الكبير»
الذي بنى عليه الجاحظ نظريته.
وهذا
التطور الارتقاؤي إذا طبقناه على الكلام كان الارتقاء كالتالى،ففي الأسفل نجد
الدلالات التي لا تتحدد أبعادها إلاّ إذا أدرجت في شبكة نحوية، والشبكة النحوية لا
تظهر قيمتها الكلامية إلاّ إذا أدرجت في الطبقة التي فوقها طبقة البلاغة. والبلاغة
التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ترتقي إلى طبقة الأسلوب التي تجمع العبارة
البلاغية وتضيف إليها البديع أي إبداعات المتكلم، لأن الأسلوب هو العلامات الدالة
على شخص المتكلم أو الصانع للعمران.
وكيفية
صنع التراكيب الكلامية ككيفية صنع التراكيب العمرانية تخضع للذكاء والحذق، ولذلك
فكر ابن خلدون في الجمع بين التراكيب العمرانية والتراكيب اللسانية في علم واحد
للتراكيب سماه فقه التراكيب. ففقه التراكيب هو كل شيء في نظرية ابن خلدون.
والتراكيب الارتقائية هي وحدها التي تمكن من الارتقاء إلى مدارك الأعجاز في القرآن
الكريم بحيث يمكن القول أن التراكيب المعنوية تبدأ عند العناصر العليا المؤلفة
لنظم القرآن الذي لا تدركه إلاّ خواص النفوس.
وهذه
التراكيب أوسع من أن يحاط بها في قواعد معينة وهي التي يجب تعليمها للناشئة بالجمع
فيها بين التراكيب اللسانية والتراكيب العملية كما تجري بالفعل في الواقع اليومي
الميداني وفي العلاقات بين الأشخاص في الأحوال والمقامات التي يعيشون فيها، وهي
خلاصة منوال ابن خلدون.
وفقه
التراكيب يتلخص في نظر ابن خلدون في مفهوم الأسلوب، وهو أسمى ما توصل إليه التفكير
الخلدوني في لسانيته الارتقائية.